بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الثاني والستين من سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومع الدرس الأول من سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه .
أيها الإخوة الكرام لا تنسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :" ...فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ... " * ( سنن ابن ماجة : عن العرباض بن سارية )
وسيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه من الخلفاء الراشدين ، وقبل أن نمضي في الحديث عن سيرته ينبغي أن نقف وقفةً قصيرة عند حقيقةٍ أساسية ، هذه الحقيقة هي أن أصول الإسلام تبدأ بالقرآن الكريم ، كتاب الله ، وحي السماء إلى الأرض ، وتأتي سنة النبي القولية لتبيِّن وتفسِّر هذا الكتاب ، هذا الأصل الثاني ، وتأتي سيرته العملية لتجسِّد فهمه لهذا الكتاب ، لعله وقع في التبيين لبسٌ ، الكتاب الكريم الأصل الأول لهذا الدين ، سنة النبي القولية بيانٌ وتفصيلٌ لهذا الأصل الأول :
( سورة النحل : آية " 44 " )
سيرته العملية تجسيدٌ لفهم النبي عليه الصلاة والسلام لكتاب الله وتجسيدٌ لبيان ما في كتاب الله الكريم ، بقي في أصول الإسلام أصلٌ رابع وهو أن صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، أولاً رضي الله عنهم بنصِّ القرآن الكريم ، وكلمة رضي الله عن المؤمنين هذا الرضاء ليس رضاءً دعائياً ، قد تقول : الشيخ محي الدين رضي الله عنه ، قد تذكر اسم عالمٍ وتترضّى عنه دعاءً لا تقريراً ، ولكن صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، رضي الله عنهم رضاءً تقريرياً ، لا رضاءً دُعائياً ، إذاً هؤلاء الصحابة على كثرتهم يمثِّلون نماذج إيمانية كلُّها مقبولة ؛ فهذا الغني ، وهذا الفقير ، وهذا الشيخ الكبير ، وهذا الشاب الصغير ، وهذا الذي نشأ في نعمٍ لا تعدٌ ولا تحصى ، وهذا الذي هاجر ، وهذا الذي مرض ، وهذا الذي عَمَّر طويلاً ، وهذا الذي مات في سن الشباب ، هذا الذي مات حتف أنفه ، وهذا الذي مات في ساحة المعركة ، هؤلاء الصحابة الذين رضي الله عنهم على كثرتهم يمثِّلون النماذج الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن .
لذلك نحن مع عملاقٍ كبير من عمالقة الإسلام ، والعملقة هنا عملقةٌ إيمانية ، مع عملاقٍ كبير من المؤمنين الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام والذين صحبوه بصدقٍ وإخلاص ، هذا الصحابي الجليل شخصيَّته شخصيةٌ فذَّة ، كلما درسنا من سيرته تنكشف لنا جوانب لم نكن نعرفها من قبل ، حتى إن علماء التاريخ في شتّى بقاع الأرض يحتفلون بهذا الخليفة العظيم ، لأنه يمثِّل أحد القيم الإنسانية الخالدة ، وقد سمعت أنه في بعض البلاد الغربية متحفٌ كبير مكتوبٌ على بابه كهف العدالة ، وفي هذا المتحف نماذج من سيرة هذا الخليفة الراشد .
أيها الإخوة الكرام ... كان يُعقد في مكة سوق عُكاظ ، أي مؤتمر أدباء ، مؤتمر للشعراء ، يتبــارى الشعراء فيما بينهم ، ويعرضون قصائدهم على المؤتمرين و المشاهدين ، وكان شيخٌ كبير من شيوخ هذا المؤتمر أو هذا السوق (عكاظ) قافلاً إلى بلدته ، فالتقى بمن يقول له : " هل علمت النبأ العظيم يا أخا العرب ؟ " فقال هذا الشيخ : " وأيّ نبأٍ عظيم؟!" قال : " ذلك الرجل الأعسر اليَسَر " . ويتساءل الشيخ قائلاً: " الذي كان يصارع في سوق عكاظ ؟ " قال : " أجل هو ". قال : " ما باله يا فتى؟ " قال: " لقد أسلم واتبع محمَّدًا " .
إنّ الإنسان أحياناً يتحرَّك حركة لا يلتفت إليها أحد ، وهناك أشخاص عظماء إذا تحرَّكوا حركة ملؤوا الدنيا بأخبارهم ، فهذا الصحابي الجليل كان شديد البأس في الجاهلية ، هو نفسه أسلم واتبع محمداً، ويفيق هذا الشيخ من دهشته ويقول : " أما والحق ليوسعنَّهم خيراً أو ليوسعنَّهم شراً " يعني رأى شخصية فذَّه ، جلدة ، قوية ، مصممة ، همَّتها عالية ، إذا تبنَّت شيئاً أعطته كل قوتها ، أما والحق ليوسعنَّهم خيراً أو ليوسعنَّهم شراً . والحقيقة لقد أوسعهم خيراً .
من سمات هذا الصحابي الجليل أنه كان إذا تكلَّم أسمع ، وإذا مشى أسرع ، وإذا ضرب أوجع ، وإذا أطعم أشبع ، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت أزهد من عمر ، كان إذا قال أسمع، وإذا أطعم أشبع ، وإذا سار أسرع ، وإذا ضرب أوجع " أي كان شديدًا ، قالوا : هذا الصحابي لم يخف قطُّ في حياته أبداً ، ولم يختلج جنانه الصامد أمام رهبةٍ أو فزع ، هذا الصحابي الجليل تنطبق عليه الآية الكريمة :
( سورة فاطر : آية " 1 " )
علماء النفس قالوا : " هناك تسعون بالمائة من الجنس البشري متوسطو القدرات ، وخمسة بالمائة متفوقو القدرات ، وخمسة بالمائة أيضاً مقصِّرون في قدراتهم " العباقرة خمسة في المائة ، والأغبياء إلى درجة العُتْه خمسة في المائة ، والتسعون متوسِّطون ، فكان هذا الصحابي الجليل من المتفوقين .
النبي عليه الصلاة والسلام كان يدرك قيمة هذا الصحابي ، قيمة هذا الرجل قبل أن يسلم ، النبي عليه الصلاة والسلام أوتي فهماً عميقاً ، وأوتي إدراكاً دقيقاً ، وأوتي خبرةً في الأشخاص ، هو يدرك أن هذا الإنسان لو أسلم لخرج منه خيرٌ كثير ، هذا الكلام يسوقنا إلى تعليقٍ طريف هو أن المسلمين بعضهم عبءٌ على الإسلام ، وبعضهم الآخر يحملون الإسلام ، بعضهم عبءٌ عليه ، وبعضهم الآخر الإسلام عبءٌ عليهم ، يعني يحملونه ، ينهضون به ، فإذا أردت أن تكون عند الله مرضياً لا تكن ممن يحملك الإسلام ، بل كن ممن يحمل الإسلام ؛ يحمله دعوةً ، يحمله تطبيقاً ، يحمله خدمةً ، يحمله غيرةً ، يحمله نشراً ، يحمله تجسيداً ، يحمله تطبيقاً ، شتَّان بين من يحمل الإسلام ، وبين من يحمله الإسلام ، هذا الصحابي كان لفترة زمنية من ألدِّ أعداء الدين ، من ألدّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أدلَّ على ذلك مِن أنه ذهب ليقتله ، ويريح الناس منه ، ولكن حينما أسلم كان من أكبر المدافعين عن الدين ، ومن أكبر الصحابة الذي خدموا هذا الدين .
وهذا يقودنا مرة ثانية إلى التفوّق ، فلا تكن من عامة الناس ، لا تكن على هامش الحياة ، لا تكن إنساناً لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، لا ينفع ولا يضر ، لا يعرف أحدًا ولا يعرفه أحدٌ ، تفوَّق لأن أبواب البطولة مفتَّحةٌ لكل الناس ، والنظرية القائلة بأن ذكاء الإنسان محدود وأن قدراته محدودة هذه نظريةٌ باطلة ، حلَّ محلها نظريةٌ أخرى وهي أن في الإنسان قدراتٍ كامنةً إذا فُجِّرت جاءت بالمعجزات، وأنجزت الحضارات .
أيها الإخوة ... الشيء الذي كان متاحاً للصحابة الكرام متاحٌ لكم أيضاً ، الله هو هو ، كتابه بين أيديكم ، فرص الأعمال الصالحة ما أكثرها ؛ أعمال الدعوة ، أعمال الخدمة ، أعمال الإنفاق ، أعمال الرعاية ، الأعمال الصالحة فرصها مفتَّحةٌ لكل مسلم ، والقوانين التي قنَّنها الله هي هي ، إذا أخلصتَ له، وأقبلـتَ عليـه ، واصطلحتَ معه ترى العجب العجاب ، ترى العجب العجاب في سعادتك التي لم تكن تعرفها ، في الطُمأنينة التي كنت تفتقدها ، في التوازن الذي كنت بحاجةٍ إليه ، في هذا اليسر في أعمالك الذي تلحظه بشكل صارخ :
( سورة الليل )
ذكرت في درس من الدروس أن الوعود التي وعد الله بها المؤمنين هي وعود من قِبل خالق الكون ، ولزوال الكون أهون على الله من ألاّ تقع ، لو كنت مؤمناً ، فإذا لم تجدها فشُكَّ في إيمانك ، بل جدِّد إيمانك ، واصطلح مع الله ، وشمِّر إليه وقم إلى طاعته ، أو كما قال الله عزَّ وجل :
( سورة الذاريات )
أيها الإخوة ... هذا الذي جعلني أقول : إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف ما ينطوي عليه هذا الرجل من قدرات ومن نبوغ ومن همةٍ عالية ومن عبقريةٍ فذَّة ومن اندفاعٍ قوي ؛ ولكنه كان اندفاعاً ضد الحق وفي خدمة الباطل ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول : ((اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ )) .(رواه الترمذي عن ابن عمر)
ومرةً ثالثة هناك ، واحدٌ كألف ، وهناك ألفٌ كأُف ، هناك واحدٌ ينهض بهذا الدين ، وهناك آلافٌ هم عبءٌ على الدين ، هناك واحدٌ في قلوب الآلاف ، وآلافٌ ليست في قلوب واحد ، ومرةً ثالثة ورابعة وخامسة لو لم تكن أبواب البطولة مفتَّحةً في كلّ زمانٍ ومكان لمجموع الناس ، لكان من الإجحاف بحقّ بعض الناس أن يأتوا في عصرٍ غير عصر النبي .
سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ألا يعدُّ خامس الخلفاء الراشدين ، سيدنا صلاح الدين الأيوبي الذي ردّ أوروبا بأكملها ألا يعدُّ سادس الخلفاء الراشدين ، ألم أقل إن باب البطولة مفتوحٌ دائما ما عليك إلا أن تتحرَّك ، وإلا أن تصدِّق ، وإلا أن تعطي ربّك كل جهدك ، وطاقتك ، وكل قدراتك، وكلَّ ما تملك ، وهذا معنى قوله تعالى :
( سورة البقرة )
وأيضاً اسمعوا مني هذه الحقيقة : إذا كنت داعياً إلى الله عزَّ وجل ، فكلما كنت أشدَّ صدقاً وإخلاصاً ساق الله إليك المخلصين الصادقين، وكلما كنت أقلَّ إخلاصاً وأقل صدقاً التف حولك الأقل صدقاً وإخلاصاً ، فإذا أردت أن يكون حولك أُناسٌ متفّوقون تفوَّق أنت قبلهم ، إذا أردت أن يكون حولك أُناسٌ مخلصون كن أنـت أشدَّهم إخلاصاً ، إذا أردت أن يكون حولك أُناسٌ طائعون لله عزَّ وجل فكن أنت أسبقهم إلى طاعة الله عزَّ وجل ، لا يُعقل أن تتمنى على الله أُناساً أصدق منك ، أو أطوع لله منك ، أو أقرب إلى الله منك ، أو أشدَّ إخلاصاً منك ، كنت أقول لكم هذا الدعاء دائماً : " اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك ، اللهم إني أعوذ بك أن أتزيَّن للناس بشيءٍ يشينُني عندك ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرةً لأحدٍ من خلقك " .
إذاً إذا بحثـت عن النخبة فمعك الحق ، لأن هؤلاء النخبة يقدِّمون الشيء الكثير بجهدٍ يسير ، لشدة إخلاصهم .
النبي عليــه الصلاة والسلام ، شخصٌ واحد ، جاء الحياة وغادرها ، وترك الهدى في معظم بلاد الأرض ، قلب المجتمعات البشرية رأساً على عقب، نشر الفضيلة ، نشر الرحمة ، نشر الهدى وهو واحد، الله عزَّ وجل حاضرٌ وناظرٌ إليك ، يقول عبد الله بن مسعود : " ما زلنا أعزةً منذ أسلم عُمر ، كان إسلامه فتحاً ، وكانت هجرته نصراً ، وكانت إمارته رحمةً ، وما نستطيع أن نصلّي بالبيت حتى أسلم عمر " .
لكن هذا الكلام إيّاكم أن تفهموه فهما آخر ، أيكون عمر أشجع من رسول الله ؟ لا والله ، كنا إذا حمي الوطيس كنا نلوذ برسول الله ، فلم يكن أحدٌ أقرب إلى العدو منه ، لكن اسمعوا هذه الحقيقة : سيدنا عمر يمثِّل نفسه، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرِّع ، فلو لم يأخذ الحيطة ، ولو لم يأخذ الأسباب لعُدَّ اقتحام الأخطار سنةً ، ولعُدَّ أخذ الأسباب حراماً ، هذا هو الفرق ، سيدنا عمر ليس مشرِّعاً فإن أصاب فلنفسه ، وإن أخطأ فعليها ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام مشرِّع ، وهذا يقودنا دائماً إلى الفرق بين الحكم الشرعي والموقف النفسي ، سيدنا الصديق شرب لبناً ثم علم بعد أن شربه أنه مالٌ حرام ، فتقيَّأه ، يا ترى تقيّؤ الطعام حكمٌ شرعيٌ أو موقفٌ شخصي ؟ موقف شخصي يدلُّ على شدة ورعه ، ولكن الحكم الشرعي لا يقول بهذا ، سيدنا الصديق أعطى كل ماله لرسول الله ، قال: " يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ " قال : " الله ورسوله " . هذا موقفٌ يدلُّ على أعلى درجات التضحية ، هل هو حكمٌ شرعي ؟ لا ، لأن معظم الناس لا يستطيعونه ، الشرع جاء مع الخط العريض ، مع الأكثرية المتوسِّطة لا مع الأقلية المتفوِّقة .
يقول بعض كتَّاب السير الذاتيـة : " في الجاهلية كانت حربه للإسلام تكاد وحدها تعدل أذى قريشٍ جميعها ( سيدنا عمر وحده ) وفي الإسلام صارت حربه للوثنية تكاد تعدل مقاومة الإسلام بأسره " حجمه كبير جداً ، إذًا اتجه إلى الحق ، بكل إمكاناته ، وحينما كان يحارب هذا الدين فحربه لهذا الدين تعدل حرب قريشٍ كلّها ، وحينما حارب الوثنية بعد أن أسلم حربه تعدل مقاومة الإسلام كلِّه للوثنية ، لذلك حينما يقول بعض العلماء : هو عملاق الإسلام ، وهو في الحقيقة كان عملاقًا في الشكل ، كان فارع الطول ، عريض المنكبين ، قوي البُنية ، فبعض كتَّاب السير أرادوا أن يسحبوا هذه العَمْلَقة في جسمه إلى العملقة في إيمانه ، فكثيرٌ مَن يقول : عمر عملاق الإسلام .
لكن أيها الإخوة ... يجب أن تعلموا أن هناك فرقاً دقيقاً بين التطرُّف والتفوّق ، الإنسان إذا تطرَّف خرج عن الوَسَط :